الاثنين، 25 أكتوبر 2010

ملخص كتاب" الإيمان وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين " لمحمد محمود خضير


ملخص  كتاب الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل (  المجلد الأول )
قام بتلخيصه | محمد بن عبدالله الشنو ...
تنسيق : فهد الهتار( طالب دكتوراه – قسم الثقافة الإسلامية –  كلية التربية - جامعة الملك سعود )
الإيمان في اللغة :
الإقرار الذي يتضمن تصديق القلب وانقياده ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( وإنما يقال : آمن له ، كما يقال : أقررت له ، فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق مع أن بينهما فرقا ) [1].
وقال : ( ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق ، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق ، وعمل القلب الذي هو الانقياد ) [2].

المبحث الثاني : الإيمان شرعاً :-
الإيمان في الشرع حقيقة مركبة من القول والعمل : قول القلب وقول اللسان ، وعمل القلب وعمل الجوارح .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون : الإيمان قول وعمل ونية ، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر ) [3].
المبحث الثالث : تفصيل القول في حقيقة الإيمان :-
قول باطن ، وقول ظاهر ، وعمل باطن ، وعمل ظاهر .
أولاً : قول القلب- :
والمراد به تصديقه وإيقانه . والدليل على أن قول القلب من الإيمان [4] ، قوله تعالى : ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ [5].
وقوله r عن الإيمان : (( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )) [6].
وهذا التصديق ( إذا لم يكن معه طاعة لأمره ، لا باطناً ولا ظاهراً ، ولا محبة لله ، ولا تعظيم له ، لم يكن ذلك إيماناً ) [7].
وهذا التصديق – مع عمل القلب – أصل الإيمان ، وأنه أصل للقول الظاهر ، كما أن عمل القلب أصل لعمل الجوارح .
ثانياً : قول اللسان :-
وهو القول الظاهر الذي لا نجاة للعبد إلا به ، وهو التكلم بكلمة الإسلام : لا إله إلا الله محمد رسول الله r ، ( ثم التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل والثناء على الله والصلاة على رسوله والدعاء وسائر الذكر ) [8].
ومن الأدلة على أن قول اللسان من الإيمان قوله تعالى : ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ الآية [9].
وقوله r : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله )) [10].
فمن لم يتكلم بالشهادتين مع القدرة فهو كافر ، ظاهراً وباطناً .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين ، وهو كافر ظاهراً وباطناً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها ) [11] .
تنبيه :
ليس المقصود بالشهادتين مجرد الإخبار عما في النفس من العلم والجزم بأن لا إله إلا الله ، بل لابد أن يكون ذلك على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد ، ولهذا لم ينفع اليهود وغيرهم اعترافهم للنبي r بأنه رسول الله مع قولهم لا إله إلا الله ؛ لأن ذلك كان على سبيل الإخبار دون التزام وانقياد لشريعته .
ثبوت الإسلام بالنطق بالشهادتين :
لا يفهم أن الكافر إذا تكلم بالشهادتين لم يثبت له حكم الإسلام حتى يختبر أو يأتي بشرائع الإسلام ، بل الإسلام والعصمة يثبتان بمجرد النطق ، ثم ينتظر من القائل حقائق الأداء ، وتصديق القول بالعمل ، هذا هو الأصل .
والحكم للكافر بالإسلام إذا قال لا إله إلا الله ، مما أجمع عليه المسلمون .
ثالثاً : عمل القلب- :
وهو النية والإرادة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( وأما عمل القلب فهو عبارة عن تحركه وإرادته مثل الإخلاص في العمل ، فهذا عمل قلب ، وكذلك التوكل والرجاء والخوف ، فالعمل ليس مجرد الطمأنينة في القلب ، بل هناك حركة في القلب ) [12].
والدليل على دخول ذلك في الإيمان : قوله تعالى : ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ [13].
وقوله r : (( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان )) [14] .
فالحياء من عمل القلب .
وعامة فرق الأمة تدخل أعمال القلوب في الإيمان ، إلا جهماً ومن تبعه [15].
رابعاً : عمل الجوارح :
وهذا هو موضع المعركة بين أهل السنة والمرجئة ، فإن عامة المرجئة لا يدخلون أعمال الجوارح في الإيمان ، وإن أدخلوا أعمال القلوب ، وهذا من غلطهم ؛ فإن أعمال الجوارح لازمة لأعمال القلب ، ومن الممتنع أن يقوم بالقلب محبة لله وخوف ورجاء منه ، ثم لا يظهر أثر ذلك على الجوارح ، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( و المرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان ، فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق ، فهذا ضلال بين ، ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم : العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه ، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن ، فبقى النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن ؟ أو لازم لمسمى الإيمان ؟ ... و أيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا ، وهذا باطل قطعا ؛ فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه فهو كافر قطعا بالضرورة . وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضا ؛ لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن ) [16].
والدليل على أن أعمال الجوارح من الإيمان : قوله تعالى : ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ [17].
وقوله r لوفد عبد قيس : (( آمركم بالإيمان بالله وهل تدرون ما الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتعطوا من المغنم الخمس )) [18].
إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة المستفيضة .

المبحث الرابع : أصل الإيمان وفرعه :
الإيمان وإن كان حقيقة مركبة من القول والفعل ، الظاهر والباطن ، إلا أن له أصلاً وفرعاً ، فأصله ما في القلب ، وفرعه ما يظهر على الجوارح .
فإذا قام بالقلب إيمان – قول وعمللزم ضرورة أن ينفعل البدن بالممكن من القول الظاهر والعمل الظاهر .
ثم إن من أهل السنة من جعل أصل الإيمان شاملاً لقول القلب ، وعمل القلب ، وقول اللسان ، ومنهم من جعل الأصل مقصوراً على ما في القلب .
وتسمية قول اللسان فرعاً ، لا يعني أنه يمكن الاستغناء عنه ، وأن الإيمان يصح بدونه ، بل هو فرع لازم ، يدل انتفاؤه على انتفاء الملزوم ، وكذلك العمل الظاهر لازم للإيمان الباطن ، لا ينفك عنه ، وانتفاؤه يدل على أنه لم يبق في القلب إيمان .
فالفرع لازم للأصل ، دال عليه ، مصحح له .
وأما شيخ الإسلام رحمه الله فإنه في مواضع كثيرة يجعل الأصل هو ما في القلب ، والفرع ما يظهر على البدن .
وقال : ( وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له ، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة . فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه ودليله ومعلوله ، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما في القلب ، فكل منهما يؤثر في الآخر ، لكن القلب هو الأصل ، والبدن فرع له ، والفرع يستمد من أصله ، والأصل يثبت ويقوى بفرعه ) [19].
العلاقة بين قول القلب وعمله -:
الأصل أن التصديق التام (الصحيح) يوجب عمل القلب ويستلزمه ، مالم يوجد معارض راجح من هوى أو كبرٍ أو حسد .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( " الإيمان و إن كان أصله تصديق القلب ، فذلك التصديق لابد أن يوجب حالاً في القلب و عملا له ، وهو تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته ، وذلك أمر لازم ، كالتألم والتنعم عند الإحساس بالمؤلم و المنعم ، وكالنفرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي ، فإذا لم تحصل هذه الحال و العمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق ولم يُغن شيئا ، وإنما يمنع حصوله إذا عارضه معارض من حسد الرسول أو التكبر عليه أو الإهمال له وإعراض القلب عنه ، ونحو ذلك ، كما أن إدراك الملائم والمنافي يوجب اللذة والألم ، إلا أن يعارضه معارض . ومتى حصل المعارض كان وجود ذلك التصديق كعدمه ، كما يكون وجود ذلك كعدمه ، بل يكون ذلك المعارض موجبا لعدم المعلول الذي هو حال في القلب ، وبتوسطِ عدمه يزول التصديق الذي هو العلة ، فينقلع الإيمان بالكلية من القلب " [20] .
المقصود من زوال التصديق عند انتفاء عمل القلب- :
فإن قيل : من وُجد لديه المعارض ، من الكبر والحسد ونحوه ، وانتفى عنه عمل القلب ، وما يتبع ذلك من القول الظاهر والعمل الظاهر ، هل زال عنه التصديق ، أم لا ؟
فالجواب أن يقال : التصديق وإن كان باقياً إلا أنه تصديقٌ لا يعتد به ، فما يرد في عبارة شيخ الإسلام أحياناً من أن التصديق يزول أو ينتفي بانتفاء عمل القلب ، فمراده أنه يزول عنه التصديق النافع الذي يكون إيماناً ، وقد سبق أن التصديق الذي لا يستلزم عمل القلب لا يكون إيماناً باتفاق المسلمين .
فمن جعل مجرد العلم والتصديق موجباً لجميع ما يدخل في مسمى الإيمان وكل ما سمي إيماناً فقد غلط ، بل لابد من العمل والحب ، والعلم شرط في محبة المحبوب ، كما أن الحياة شرط في العلم ، لكن لا يلزم من العلم بالشيء والتصديق بثبوته محبته ، إن لم يكن بين العالم والمعلوم معنى في المحب أحب لأجله ، ولهذا كان الإنسان يصدق بثبوت أشياء كثيرة ويعلمها ، وهو يبغضها .

المبحث الخامس : زيادة الإيمان ونقصانه:-
أجمع أهل السنة على أن الإيمان يزيد وينقص ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها : التصريح بزيادة الإيمان :
قال الله تعالى : ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ[21].
وقد سئل سفيان بن عيينة عن الإيمان يزيد وينقص ؟ فقال : أليس تقرأون : ﮊﮋﯜ ﯝفي غير موضع [22]. قيل : فينقص ؟ قال : ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص [23].
والمقصود أن القرآن دل على زيادة الإيمان صراحة ، ودل على نقصانه تضمناً ؛ إذ ما من شيء يزيد إلا وهو ينقص
وأما السنة : فقد جاء التصريح فيها بالنقصان ، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال : خرج رسول الله r في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال : (( يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار )) . فقلن : وبم يا رسول الله ؟ قال : (( تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن )) . قلن : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ قال : (( أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل )) . قلن : بلى قال : (( فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ قلن : بلى ، قال : فذلك من نقصان دينها )) [24].
إلى غير ذلك من الأدلة التي هي مستند أهل السنة في إجماعهم على أن الإيمان يزيد وينقص .
والمقصود أن السلف من الصحابة والتابعين والأئمة ، متفقون على القول بالزيادة والنقصان .
قال أحمد رحمه الله : ( الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ) [25].

المبحث السادس : الاستثناء في الإيمان :-
وقال شيخ الإسلام مبيناً أوجه الاستثناء : ( فإن كثيراً من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم استثنوا في الإيمان
وآخرون أنكروا الاستثناء فيه ، وقالوا : هذا شك .
والذين استثنوا فيه منهم من أوجبه ، ومنهم من لم يوجبه ، بل جوّز تركه باعتبار حالتين ، وهذا أصح الأقوال ، وهذان القولان في مذهب أحمد وغيره . فمن استثنى لعدم علمه بأنه غير قائم بالواجبات كما أمر الله ورسوله ، فقد أحسن . وكذلك من استثنى لعدم علمه بالعاقبة . وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله تعالى ، لا شكا .
ومن جزم بما هو في نفسه في هذه الحال ، كمن يعلم من نفسه أنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فجزم بما هو متيقن حصوله في نفسه فهو محسن في ذلك ) [26] .
ويتضح مما سبق أن الاستثناء عند السلف راجع إلى أحد خمسة أمور :
الأول : أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات وترك المحرمات جميعها ، وليس أحد يدعي أنه أتى بذلك ، فجاز أن يستثني على هذا الاعتبار (وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون ) [27].
الثاني : النظر إلى قبول الأعمال ، فإن الإنسان يعمل ولا يدري أيتقبل منه أم لا ، لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على الوجه المأمور [28] .
الثالث : ترك تزكية النفس ، وأي تزكية أعظم من التزكية بالإيمان [29] .
الرابع : أن الاستثناء يكون في الأمور المتيقنة التي لا يشك فيها ، كما في آية الفتح ، وفي قصة صاحب القبر [30] .
الخامس : الاستثناء لعدم العلم بالعاقبة ، وخوف تغيّر الحال ، في مستقبل العمر .
والحاصل أن أهل السنة على جواز الاستثناء لهذه الاعتبارات ، وجواز تركه إذا كان المقصود أصل الإيمان ، لا الإيمان المطلق الكامل ، وأما على الشك ، فيمنع منه اتفاقا . وينبغي لمن لم يستثن أن يقرن كلامه بما يبين أنه لا يريد الإيمان المطلق الكامل ، كأن يقول : آمنت بالله وملائكته ورسله ، ونحو ذلك .
كراهة السلف سؤال الرجل أخاه : أمؤمن أنت ؟:-
وقد كره السلف سؤال الرجل أخاه : أمؤمن أنت ؟ بل عدوا هذا من البدع التي أحدثها المرجئة .
والمرجئة أوردت هذا السؤال احتجاجاً منها على أن الإيمان قول وتصديق بلا عمل .
ووجه ذلك أن المجيب إذا قال : أنا مؤمن ، قيل له : فهل جئت بالعمل ؟ وكيف ساغ لك الجزم بالإيمان وأنت لا تجزم بالعمل ؟ فهذا تسليم منك بأن الإيمان قول بلا عمل !
فلما علم السلف مقصودهم ، كرهوا السؤال ، وكرهوا جوابه [31] .

المبحث السابع : الفرق بين الإيمان والإسلام :
اشتهر الخلاف بين أهل السنة في الإيمان والإسلام ، هل هما مترادفان أو متغايران ؟ وأكثرهم على إثبات التغاير ، وأن الإيمان درجة أعلى من الإسلام ، وبينهما تلازم ، فلا إسلام لمن لا إيمان له ، ولا إيمان لمن لا إسلام له .
والقائلون بالتغاير اختلفوا في حقيقة الفرق بينهما ، فمنهم من قال : الإسلام الكلمة والإيمان العمل ، ومنهم من قال : الإسلام الأعمال الظاهرة ، والإيمان : الاعتقادات الباطنة ، والمحققون منهم على أن ذلك يختلف باختلاف حالتي الإفراد والاقتران .
أما المرجئة فيرون أن الإسلام أفضل من الإيمان ؛ إذ الإيمان عندهم خصلة من خصال الإسلام .
وقد لخص شيخ الإسلام رحمه الله أقوال الناس في المسألة ، فقال : " ولهذا صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال : فالمرجئة يقولون : الإسلام أفضل ، فإنه يدخل فيه الإيمان . وآخرون يقولون : الإيمان والإسلام سواء ، وهم المعتزلة والخوارج ، وطائفة من أهل الحديث والسنة ، وحكاه محمد بن نصر عن جمهورهم وليس كذلك .
والقول الثالث : أن الإيمان أكمل وأفضل ، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة في غير موضع ، وهو المأثور عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان . ثم هؤلاء منهم من يقول : الإسلام مجرد القول والأعمال ليست من الإسلام . والصحيح أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة كلها ) [32].
القائلون بالفرق بين الإسلام والإيمان -:
فجمهور أهل العلم بل عامة أهل السنة على ذلك ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما كأبي جعفر ، وحماد بن زيد ، وعبدالرحمن بن مهدي ، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره ، ولا علمت أحداً من المتقدمين خالف هؤلاء فجعل نفس الإسلام نفس الإيمان ، ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي .
وكذلك ذكر أبو القاسم التيمي الأصبهاني وابنه محمد شارح مسلم وغيرهما أن المختار عند أهل السنة أنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن كما دل عليه النص ) [33] .
ومن أدلة الجمهور على التفريق بين الإيمان والإسلام :
1-
قوله تعالى : ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ[34].
والجمهور على أن هؤلاء الأعراب ليسوا منافقين ، بل معهم إسلام وإيمان يثابون عليه ، ولكن حقائق الإيمان لم تدخل قلوبهم ، فنفي عنهم الإيمان كما نفي عن الزاني والسارق ، ومن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ومن لا يأمن جاره بوائقه ، وغير ذلك [35].
وقال ابن كثير رحمه الله : وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه ) .
وقال : ( فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين ، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم ، فادعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه فأُدّبوا في ذلك ، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير . وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان ، وليسوا كذلك ) [36].
 2-
قوله تعالى : ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ [37]، ففرق بين الإسلام والإيمان .
3-
 وحديث جبريل المشهور ، وفيه : (( فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله : "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .."الحديث [38] .
ففرق النبي  بين مسمى الإسلام ومسمى الإيمان ومسمى الإحسان ، فجعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة ، وجعل الإيمان ما في القلب [39] .
4-
حديث :" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبةً يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن" [40] .
قال الإمام أحمد رحمه الله : ( هكذا يروى عن أبي جعفر [ الباقر ] قال : (( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )) قال : يخرج من الإيمان إلى الإسلام ، فالإيمان مقصور في الإسلام ، فإذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام ) [41] .
قاعدة الاجتماع والاقتران :
ما ذكر في النصوص السابقة من التغاير بين مسمى الإيمان ومسمى الإسلام ، جميعه وارد في حالة الاقتران [42] ، وأما حالة الإفراد فقد فسر فيها الإيمان بما فسر به الإسلام ، وهو الأعمال الظاهرة ، وذلك كقوله النبي  في حديث وفد قيس : "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغانم الخمس وأنهاكم عن أربع ما انتبذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت"[43] .
وكقوله في حديث الشعب : (( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" [44].
ففسر الإيمان هنا بما يشمل الأعمال الظاهرة .
ولهذا كان التحقيق أن الإسلام والإيمان كاسم الفقير والمسكين ، إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا .
قال ابن رجب رحمه الله :" وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان وتفريق النبي بينهما وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون الإيمان ، فإنه يتضح بتقرير أصل وهو أن من الأسماء ما يكون شاملاً لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه ، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالاً على بعض تلك المسميات ، والاسم المقرون به دال على باقيها ، وهذا كاسم الفقير والمسكين ، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج ، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات والآخر على باقيها
فهكذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر ، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده ، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده ، ودل الآخر على الباقي .
وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة : قال أبو بكر الإسماعيلي في رسالته إلى أهل الجبل : قال كثير من أهل السنة والجماعة : إن الإيمان قول وعمل ، والإسلام فعل ما فرض الله على الإنسان أن يفعله . إذا ذكر كل اسم على حدته مضموماً إلى آخر ، فقيل : المؤمنون والمسلمون جميعاً مفردين ، أريد بأحدهما معنى لم يرد به الآخر ، وإذا ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم .
وقد ذكر هذا المعنى أيضا الخطابي في كتابه معالم السنن [45]، وتبعه عليه جماعة من العلماء من بعده ) [46].
ثم قال رحمه الله :"إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر ، فلا فرق بينهما حينئذ . وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق .
والتحقيق في الفرق بينهما : أن الإيمان: هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته . والإسلام : هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له وذلك يكون بالعمل ، وهو الدين كما سمى الله في كتابه الإسلام دينا ، وفي حديث جبريل سمى النبي الإسلام والإيمان والإحسان دينا ، وهذا أيضا مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر ، وإنما يفرق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر ، فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب وبالإسلام جنس العمل ) [47] .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام ، فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر .
ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج ؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله ، والانقياد له وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطناً ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه ، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد ) [48] .
قال شيخ الإسلام : ( فإن الإيمان مستلزم للإسلام باتفاقهم ، وليس إذا كان الإسلام داخلاً فيه يلزم أن يكون هو إياه ، وأما الإسلام فليس معه دليل على أنه يستلزم الإيمان عند الإطلاق ... ولو قدر أن الإسلام يستلزم الإيمان الواجب فغاية ما يقال : أنهما متلازمان فكل مسلم مؤمن وكل مؤمن مسلم ، وهذا صحيح إذا أريد أن كل مسلم يدخل الجنة معه الإيمان الواجب ، وهو متفق عليه إذا أريد أن كل مسلم يثاب على عبادته فلابد أن يكون معه أصل الإيمان ) [49].
وقال : (فإذا قيل : أن الإسلام والإيمان التام متلازمان لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر كالروح والبدن ، فلا يوجد عندنا روح إلا مع البدن ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح وليس أحدهما الآخر . فالإيمان كالروح ، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن ، والإسلام كالبدن ، ولا يكون البدن حياً إلا مع الروح ، بمعنى أنهما متلازمان ، لا أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر ، وإسلام المنافقين كبدن الميت ، جسد بلا روح ، فما من بدن حي إلا وفيه روح ) [50].

مفهوم الكفر عند أهل السنة والجماعة :
المبحث الأول : الكفر لغة وشرعا .
الكفر لغة : الستر والتغطية
قال ابن قتيبة : ( أما الكافر ، فهو من قولك : كفرت الشيء إذا غطيته ) .
والكفر شرعاً : ضد الإيمان ، فيكون قولاً وعملاً واعتقاداً وتركاً .
وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة .
المبحث الثاني : الكفر يكون قولاً باللسان ، واعتقاداً بالقلب ، وعملاً بالجوارح.
1-
مما يدل على أن الكفر يكون كلاماً باللسان قوله تعالى : ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ [51].
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( فبين أنهم كفار بالقول ، مع أنهم لم يعتقدوا صحته ) [52] .
2-
ومن الكفر الذي هو فعل : السجود أو الذبح لغير الله تعالى .
3-
وأما كفر الاعتقاد المناقض لقول القلب أو عمله ، فتكذيب النبي باطناً ، أو بغضه ومعاداته مع اعتقاد صدقه .
4-
والكفر يكون بالترك ، كترك الصلاة عند جمهور السلف ، بل هو إجماع الصحابة .
ومن ذلك ترك عمل الجوارح بالكلية ، كمن يعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يزكي ولا يصوم ولا يحج ولا يفعل شيئاً من الواجبات أو المستحبات ، فهذا كافر كفراً لا يثبت معه توحيد ، ولا يكون هذا إلا مع زوال عمل القلب ، والمرجئة تنازع في كفر هذا وتأباه ، جهلاً منهم بحقيقة الإيمان ، وإنكار للتلازم بين الظاهر والباطن .

المبحث الثالث : الكفر الأكبر والأصغر .
أنواع الكفر الأكبر :
الكفر الأكبر خمسة أنواع : كفر تكذيب ، وكفر استكبار وإباء مع التصديق ، وكفر إعراض ، وكفر شك ، كفر نفاق .
ضابط الكفر الأصغر :
هو كل ذنب سماه الشارع كفراً ، مع ثبوت إسلام فاعله بالنص أو بالإجماع .

المبحث الخامس : حكم مرتكب الكبيرة .
ومن أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون الإنسان بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج ، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة ، بل يكلون أمره إلى الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له [53] .
المبحث السادس : حكم الفاسق الملي
أهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان ، ولو لا ذلك لما عذب ، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين .
وهل يطلق عليه اسم مؤمن ؟ هذا فيه القولان ، والصحيح التفصيل :
فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة ، قيل : هو مؤمن . وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين .
وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة ، قيل : ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة ، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار ، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار ، إن لم يغفر الله له ذنوبه . ولهذا قال من قال : هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ، أو مؤمن ناقص الإيمان .
والذين لا يسمونه مؤمناً من أهل السنة ومن المعتزلة يقولون : اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان لقوله تعالى : ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ[54]، وقوله : ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ [55].
(
والفرق بين مطلق الشيء ، والشيء المطلق ، أن الشيء المطلق هو الشيء الكامل ، ومطلق الشيء يعني أصل الشيء وإن كان ناقصاً . فالفاسق لا يعطى الاسم المطلق في الإيمان وهو الاسم الكامل ، ولا يسلب مطلق الاسم ، فلا نقول : ليس بمؤمن ، بل نقول : ناقص الإيمان ، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة وهو المذهب العدل الوسط ، وخالفهم في ذلك طوائف : المرجئة يقولون : مؤمن كامل الإيمان ، والخوارج يقولون : كافر ، والمعتزلة في منزلة بين المنزلتين ) [56].
مفهوم الإيمان والكفر عند الفرق
الإيمان عند الخوارج والمعتزلة وقولهم في أصحاب الذنوب :
ذهب الخوارج والمعتزلة إلى أن الإيمان قول وعمل ، لكنه لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه ، وهو شيء واحد إن ذهب بعضه ذهب كله ، وهذا ما دعاهم إلى القول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار ، لكنهم اختلفوا في حكمه في الدنيا ، فقالت الخوارج بكفره ، وقالت المعتزلة إنه في منزلة بين المنزلتين .
ولا شك أن قول الخوارج والمعتزلة من البدع المشهورة المخالفة للكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة .

في بيان مذهب الجهمية
المبحث الأول : قولهم في الإيمان
ذهب جهم ومن وافقه إلى أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط ، وأن الكفر هو الجهل به فقط ، وأن قول اللسان وعمل القلب والجوارح ليس من الإيمان ، وأن الإيمان شيء واحد لا يتفاضل ولا يستثنى منه .
وهذا أفسد قول قيل في الإيمان ، ولهذا كفر أحمد ووكيع وغيرهما من قال بذلك .
والحاصل أن جهماً ومن وافقه يرون أن الإيمان هو مجرد المعرفة أو التصديق ، وأن ذلك ينفع صاحبه ولو لم يتكلم قط بالإسلام ، ولا فعل شيئاً من واجباته ، ومع ذلك فقد التزم جهم بتكفير من كفره الشرع كإبليس وفرعون ، زاعما أنه لم يكن في قلبيهما شيء من المعرفة بالله .
ولا شك أن إلزام الجهمية بالقول بإيمان إبليس وفرعون لوجود التصديق منهما إلزام لا محيد لهم عنه ، ولهذا اضطربوا في الجواب عنه .
المبحث الثالث : أغلاط جهم
ظنه أنه مجرد تصديق القلب ومعرفته .
ظنه أن من حكم الشرع بكفره
في بيان مذهب الكرامية
وقد ذهبت الكرامية إلى أن الإيمان قول باللسان فقط ، وأنه شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ، ولا يستثنى فيه .
قلت : الكرامية تسمي المنافق مؤمناً ، ولكنهم يحكمون بأنه مخلد في النار .
في بيان مذهب الأشاعرة
المبحث الأول : قولهم في الإيمان
القول المعتمد عند الأشاعرة :
أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، وأن قول اللسان شرط لإجراء الأحكام في الدنيا ، وأن عمل الجوارح شرط كمال في الإيمان ، وأن الإيمان يزيد وينقص .
قول اللسان شرط لإجراء الأحكام الدنيوية .
وأما عمل الجوارح : فهو شرط كمال الإيمان عندهم .

المبحث الثاني : قولهم في الزيادة والنقصان
والمرجح عندهم إثبات الزيادة والنقصان في الإيمان والمرجح عند الأشاعرة أن الخلاف حقيقي ، وأن التصديق نفسه يزيد وينقص .
هذا ما عليه متأخروا الأشاعرة ، وهو الذي استقر عليه مذهبهم ، وقد ذهب إلى القول بالزيادة والنقصان جماعة من متقدميهم .

المبحث الثالث : قولهم في الاستثناء في الإيمان :
اختلف الأشاعرة في الاستثناء ، ومن جوزه منهم فباعتبار الموافاة ، ومرادهم أن الإيمان هو ما مات عليه العبد ، ويوافي به ربه ، وهذا مجهول للعبد فيستثني لذلك .
فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن أهل السنة أنهم يستثنون في الإيمان ، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه ، وهو ما يوافي به العبد ربه ، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا ، فصاروا يحكون هذا عن السلف ، وهذا القول لم يقل به أحد من السلف ، ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم ، لمـا رأوا أن قولهم لا يتوجه إلى على هذا الأصل ، وهم يدعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث ) [57].
وأكثر الطوائف يخالفونه في هذا ، فيقولون بل قد يكون الرجل عدواً لله ثم يصير ولياً لله ، ويكون الله يبغضه ثم يحبه ، وهذا مذهب الفقهاء والعامة ، وهو قول المعتزلة والكرامية والحنفية قاطبة وقدماء المالكية والشافعية والحنبلية .
وعلى هذا يدل القرآن كقوله : ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ[58] ، و ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ [59] ، وقوله : ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞﮟ ﮠ ﮡ [60] ، فوصفهم بكفر بعد إيمان ، وإيمان بعد كفر ، وأخبر عن الذين كفروا أنهم كفار ، وأنهم إن انتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، وقال : ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ[61] ، وقال : ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ[62].
وبهذا يظهر الفرق بين من استثنى من السلف لأجل خوف العاقبة وتغير الحال [63] ، وبين القول بالموافاة ، الذي ذهب إليه الأشاعرة ، وتضمن القول بأن الإيمان هو ما مات عليه العبد ، وأن الإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً وكافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه ، وما قبل ذلك لا عبرة به ، وتضمن أيضاً : أن حب الله وبغضه ورضاه وسخطه وولايته وعداوته إنما يتعلق بالموافاة فقط .
وسر المسألة كما بين شيخ الإسلام رحمه الله أن الأشاعرة ينفون الأفعال الاختيارية, ويثبتون رضا ومحبة قديمة بمعنى الإرادة ، وعندهم أن الله لا يرضى عن أحد بعد أن كان ساخطاً عليه ، ولا يفرح بتوبة عبد بعد أن تاب عليه ، وأما أهل السنة فقد أخذوا بما دلت عليه النصوص من أن الله تعالى يحب من شاء إذا شاء ، ويرضى عمن شاء متى شاء ، ويسخط عمن شاء وقت ما يشاء ، سبحانه ، فمحبته ورضاه وسخطه صفات تتعلق بمشيئته .

المبحث الرابع : الفرق بين تصديق الأشاعرة ومعرفة جهم
والحق أن الناظر في كتب هؤلاء المتأخرين يتبين له أنهم لا يثبتون تصديقاً مجرداً عن أعمال القلوب ، بل يدخلون في التصديق : الإذعان والانقياد والقبول والرضى ، ويفرقون بينه وبين المعرفة التي أثبتها جهم ، كما أنهم يقررون كفر كثير من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يعرفون الحق ولا ينقادون له .

المبحث الخامس : مفهوم الكفر عند الأشاعرة
يرى الأشاعرة أن الكفر هو التكذيب ، أو الجهل بالله تعالى ، وأن ما كان من أمور الكفر المجمع عليها كالسجود للصنم وعبادة الأفلاك ليس كفراً في نفسه ، لكنه علامة على الكفر ، ويجوز أن يكون فاعل ذلك في الباطن مؤمناً ، ومنهم من يقول : هذه الأمور جعلها الشارع علامة على التكذيب ، فيحكم على فاعلها بوجود التكذيب في قلبه وانتفاء التصديق منه .
والحاصل أن الأشاعرة لا يرون الكفر إلا تكذيب القلب أو جهله ، ولا يرون عملاً أو قولاً هو كفر بذاته ، وأن من حُكم بكفره ، فلذهاب التصديق من قلبه ، أو يقال : هو كافر ظاهراً ، وقد يكون مؤمناً باطناً ، وهم يلتقون مع جهم في هذا التأصيل .
في بيان مذهب الماتريدية
المبحث الأول : قولهم في الإيمان:
فقد ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق ، وأن قول اللسان شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط ، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه .
في بيان مذهب مرجئة الفقهاء
المبحث الأول : قولهم في الإيمان :
والمقصود بمرجئة الفقهاء : من نسب إليه الإرجاء من الفقهاء ، كحماد بن أبي سليمان ، وأبي حنيفة رحمهما الله ومن تبعهما .
وقد ذهبوا إلى أن الإيمان تصديق بالقلب ، وقول باللسان ، وأخرجوا العمل من مسماه ، وزعموا أنه لا يزيد ولا ينقص ، ولا يستثنى منه ، مع قولهم إن مرتكب الكبيرة معرض للوعيد ، وهو تحت المشيئة ، كما هو القول عند أهل السنة والجماعة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : (والمرجئة الذين قالوا : الإيمان تصديق القلب وقول اللسان ، والأعمال ليست منه ، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ، ولم يكن قولهم مثل قول جهم . فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه ، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم . لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم ، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً ؛ فإنها لازمة لها . ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم ) [64] .
وحاصل ما عليه مرجئة الفقهاء هو ما يلي :
1-
أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان .
2-
إخراج العمل الظاهر من مسمى الإيمان .
3-
أن الإيمان لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص .
4-
أن أهله متساوون في أصله ، وأن التفاضل إنما يقع في غير الإيمان .
5-
أنه لا يستثنى فيه .
6-
أما أعمال القلوب ، فظاهر كلامهم أنها ليست من الإيمان ، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم ، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً ؛ فإنها لازمة لها .
فحيث أثبتوا التفاضل في أعمال القلوب ، دل ذلك على أنها خارجة عن مسمى الإيمان عندهم .

المبحث الثاني : هل الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء حقيقي أم لفظي ؟
ومنشأ النزاع في ذلك أن هؤلاء المرجئة ، مع قولهم بإخراج العمل من الإيمان ، ونفي الزيادة والنقصان عنه ، ومنع الاستثناء فيه ، إلا أنهم كانوا ( مع سائر أهل السنة متفقين على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار ، ثم يخرجهم بالشفاعة ، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك . وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم بلسانه ، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة ، وتاركها مستحق للذم والعقاب ) [65] .
ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الخلاف بينهم وبين أهل السنة خلاف في الاسم واللفظ دون الحكم ، وذهب آخرون إلى أنه خلاف حقيقي في الاسم واللفظ والحكم .
تحقيق قول شيخ الإسلام في هذه المسألة :
والتحقيق في ذلك أن شيخ الإسلام له عبارات متنوعة في تناول هذه المسألة :
1-
فتارة يقول عن الخلاف في الأعمال هل هي من الإيمان وفي الاستثناء ونحو ذلك : إن عامته نزاع لفظي .
2-
وتارة يقول : هذه البدعة أخف البدع فإن كثيراً من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم [66].
3-
وتارة يشير إلى أن ذلك من بدع الأقوال والأفعال لا العقائد .
وهذه المواضع الثلاثة لا تعارض بينها ، فإن فيها إقرار بأن هذا النزاع منه ما هو حقيقي ، ومنه ما هو لفظي وهو الغالب والأكثر .
4-
وتارة يبين شيخ الإسلام رحمه الله أن الخلاف إنما يكون لفظياً مع من أقرّ بأن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، بحيث إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم .
ومن خلال هذه النقولات يتضح أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى الخلاف لفظياً مع من أقر بالتلازم بين الظاهر والباطن ، وأن العمل الظاهر لازم للإيمان الباطن لا ينفك عنه, بحيث إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم . وأما من يرى العمل ثمرة تقارن الباطن تارة وتفارقه أخرى ، فهذا قائل بقول جهم ، والنزاع معه حقيقي بلا ريب .
والحاصل أن إرجاء الفقهاء يحتمل أمرين :
الأول : عدم إثبات التلازم بين الظاهر والباطن ، والقائل بهذا خلافه مع أهل السنة خلاف حقيقي جوهري .
والثاني : إثبات التلازم بين الظاهر والباطن ، والتسليم بأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم ، والقائل بهذا خلافه مع أهل السنة أكثره لفظي ، وبدعته في إخراج العمل من مسمى الإيمان ، من بدع الأقوال والأفعال ، لا من بدع العقائد .
هذا تحرير مذهب شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة .
وصرح بعض أهل العلم بأن الخلاف حقيقي جوهري ، بإطلاق :
قال الشيخ ابن باز رحمه الله معلقاً على قول الطحاوي في عقيدته المشهورة : ( والإيمان هو الإقرار باللسان ، والتصديق بالجنان ) :
(
هذا التعريف فيه نظر وقصور ، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر ، وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها فراجعها إن شئت ، وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة ، وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظياً ، بل هو لفظي ومعنوي ، ويترتب عليه أحكام كثيرة ، يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة ، والله المستعان ) [67] .
وكذلك الشيخ الألباني .
فهل بعد هذا مجال للشك في أن الخلاف حقيقي ؟
سمات الإرجاء المعاصر
المبحث الثاني : حول قول بعض السلف : من قال : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد برئ من الإرجاء
إن القول بأن الإيمان قول وعمل ، يعني إثبات أمرين لا نزاع فيهما بين أهل السنة :
الأول : أنه لا يجزئ القول ولا يصح من دون العمل ، وهذا مصرح به من أئمة السلف ، وعليه إجماعهم .
الثاني : أن الكفر يكون بالقول ، والعمل ، كما يكون بالاعتقاد والترك .
فالمخالف في هذا أو في بعضه مخالف لأهل السنة ، موافق للمرجئة ، ولو ادعى غير ذلك .

المبحث الثالث: مقالات المرجئة المعاصرة :
1-
الإيمان هو التصديق والإقرار .
2-
الإيمان هو التصديق فقط ، وقول اللسان شرط لإجراء الأحكام في الدنيا ، فمن صدق بقلبه ، ولم يأت به – من غير إباء – فهو مؤمن ناج عند الله ، وهذا معتمد الأشاعرة والماتريدية ، وهو أسوأ من قول مرجئة الفقهاء .
3-
الإيمان تصديق بالقلب ، وعمل بالقلب دون الجوارح ، وهو قول عامة المرجئة .
4-
الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، وهو قول المرجئة الأوائل ، وبه يقول أكثر الماتريدية اليوم .
5-
الكفر هو التكذيب والجحود ، وليس شيء من الأقوال أو الأعمال كفراً بذاته ، وأسوأ منه ما ذهب إليه بعض المعاصرين من أنه لا يكفر من قال الكفر أو عمله ، ( لأن أولئك قالوا : بأن الفعل والقول يكون علامة على الكفر ، بحيث يحكم عليه بالكفر لفعله أو قوله ، في أحكام الدنيا دون أحكام الآخرة ، وأما المتأخرون فلم يحكموا عليه بالكفر فيهما ، مما يعني إبطال حد الردة . لكن قول هؤلاء المتأخرين أخف من قول المرجئة المتقدمين من وجه آخر ، وهو إدخال العمل في مسمى الإيمان المطلق ، فإن المرجئة الأوائل لا يدخلون العمل في مسمى الإيمان المطلق ، وهؤلاء يدخلونه ) [68].
6-
الكفر لا يكون إلا في القلب ، لكنه لا ينحصر في التكذيب ، بل يدخل فيه ما يناقض عمل القلب ، كالاستكبار وعدم الخضوع ، والاستخفاف والعداوة والبغض ، وهذا قول بعض المرجئة .
7-
الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد ، ويريدون بالاعتقاد : التكذيب ، أو الاستحلال .
8-
ترك الصلاة ليس كفراً ؛ لأن الكفر عمل قلب وليس عمل بدن ، أو لأن الكفر لا يكون إلا بالقلب ، وهذا هو قول المرجئة ، وأما من لم يكفر تارك الصلاة ، اعتماداً على النظر في الأدلة مع التسليم بأن الكفر يكون بالقول والفعل فليس بمرجئ .
علاقة العمل بالإيمان
التلازم بين الظاهر والباطن
المبحث الأول : مفهوم التلازم
المرد بالتلازم هنا : ارتباط الظاهر بالباطن وتأثير كل منهما في الآخر ، بحيث يستحيل وجود إيمان صحيح في الباطن غير أن يظهر موجبه ومقتضاه على أعمال الجوارح قولاً وعملاً ، بل حيث وجد الإيمان في الباطن لزم أن ينفعل البدن بالممكن من أعمال الجوارح ، فالعمل الظاهر لازم للإيمان الباطن لا ينفك عنه ، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم ، فيستدل بانتفاء العمل الظاهر بالكلية على فساد الباطن .
ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن ، كما في الحديث الصحيح عن النبي r أنه قال : (( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب )) [69] .
قال تعالى : ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ[70].

المبحث الثاني : المرجئة وإنكارهم للتلازم .
المرجئة الذين أخرجوا العمل من الإيمان ، لا ينازع كثير منهم في أن العمل ثمرة للإيمان الباطن ، ولكنهم ينازعون في كونه لازماً له ، ومن سلم منهم بالتلازم كان النزاع معه لفظياً [71].
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( وقول القائل : الطاعات ثمرات التصديق الباطن ، يراد به شيئان :
يراد به أنها لوازم له ، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت ، وهذا مذهب السلف وأهل السنة .
ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سببا ، وقد يكون الإيمان الباطن تاماً كاملاً وهى لم توجد ، وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم ) [72].
وقال رحمه الله : ( الثالث [ أي من أغلاط المرجئة ] ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون شيء من الأعمال ، ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه ، بمنزلة السبب مع المسبب ، ولا يجعلونها لازمة له . والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة . ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر ) [73] .
وقال رحمه الله : ( وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام ، فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر .
ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج ؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له ، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطناً ، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه ، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد ) [74].
فهذا حال المرجئة قديماً ، ينفون التلازم ، ويتصورون وجود إيمان القلب التام ، بل الكامل مع انتفاء العمل الظاهر
وأما من قال بالإرجاء من المعاصرين أو دخلت عليه شبهته ، فقد اضطربوا في هذه المسألة ، فمنهم من يثبت التلازم بين الظاهر والباطن لفظاً ، وينفيه حقيقة ، فيحكم بإسلام تارك العمل الظاهر كله ، ويتصور وجود الإيمان المنجي في القلب مع انتفاء العمل .
ومنهم من يزعم أن لتلازم إنما يقع مع الإيمان الكامل فحسب ، فإذا كمل الإيمان في القلب استلزم العمل الظاهر ، أما أصل الإيمان فيمكن أن يوجد في القلب (قولاً وعملاً) دون أن يظهر مقتضاه على أعمال الجوارح  
المبحث الثالث : أدلة التلازم بين الظاهر والباطن .
وقد دل على هذا التلازم أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والأثر ، منها :
1-
قوله تعالى : ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ[75].
فالإيمان في الباطن يستلزم عداوة الكافرين وترك موالاتهم في الظاهر .
2-
قوله تعالى : ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ [76].
فلما اختلفت نياتهم الباطنة ، تباينت أعمالهم الظاهرة .
فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة .
وجملة القول : أن التلازم بين الظاهر والباطن فرقان بين أهل السنة والمرجئة في باب الإيمان ، وأن من عرف هذا التلازم ( زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها ) [77] .

المبحث الرابع : كفر الإعراض
أن ترك العمل الظاهر بالكلية يعتبر صورة من صور كفر الإعراض ، وهو دال على انتفاء عمل القلب من الانقياد والمحبة .
قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ، في بيان نواقض الإسلام : ( العاشر : الإعراض عن دين الله تعالى ، لا يتعلمه ولا يعمل به ، والدليل قوله تعالى : ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ[78]) [79].
تعليق :
أن ترك العمل الظاهر بالكلية كفر ، يدل على انتفاء عمل القلب من الانقياد والاستسلام والمحبة ، قول ظاهر لا يخفى ، وهو مقتضى ما سبق بيانه من إثبات التلازم بين الظاهر والباطن عند أهل السنة خلافاً للمرجئة .

إقامة البرهان على أن ترك العمل الظاهر بالكلية ناقض للإيمان
المبحث الأول : تحرير محل النزاع
1-
لا خلاف في أن انتفاء التصديق موجب للكفر على الحقيقة ، وأما في الظاهر فيحكم بالإسلام لمن لم يتلبس بناقض ظاهر ، وإن خلا من التصديق ، كما هو الحال في المنافقين .
2-
ولا خلاف في أن ذهاب عمل القلب موجب لذهاب الإيمان ، وعدم الانتفاع بالنطق والتصديق ، وهذا من باب الحكم على الحقيقة أيضاً ، أي بالنظر إلى ما عند الله .
3-
ولا خلاف في أن قول اللسان ركن لابد منه في الإيمان ، وأن من لم ينطق بالشهادتين مع القدرة فهو كافر ظاهراً وباطناً .
4-
والنزاع إنما هو في العمل الظاهر ، هل هو ركن في الإيمان ، تتوقف صحة الإيمان علة وجوده كتوقفها على بقية الأركان ؟ أم هو ثمرة أو ركن زائد أو شرط كمال ، يمكن أن يوجد الإيمان الصحيح في القلب مع تخلفه في الظاهر [80].
5-
والنزاع ليس في ذهاب عمل أو عملين ، أو جملة من الأعمال ، بل النزاع في ذهاب العمل الظاهر كله .
فالمسألة مفروضة في من شهد شهادة الحق بلسانه ، وصدق بقلبه ، وأتى بعمل القلب اللازم من المحبة والخوف والانقياد والتسليم ، وعاش دهره لا يسجد لله سجدة ، ولا يفعل شيئاً من الفرائض والنوافل ، ولا يتقرب إلى الله بعمل ، مع تمكنه من ذلك ، وعمله بما أوجب الشرع عليه في ذلك ، فهل ينفعه قول اللسان وقول القلب وعمله ، مع انتفاء عمل الجوارح ؟ وهل يتصور أصلاً وجود أعمال القلب اللازمة لصحة الإيمان حينئذ ؟ وهل يحكم لهذا الرجل بالكفر ، أم يقال : هو مسلم تحت المشيئة ؟
وإذا تحرر موضع النزاع فليعلم أن الحق الذي دلت عليه الأدلة ، واتفق عليه سلف الأمة أن الإيمان قول وعمل ، قول ظاهر وقول باطن ، وعمل ظاهر وعمل باطن ، وأنه لا يجزئ الإيمان ولا يصح إلا باجتماع هذه الأركان ، فكما لا يجزئ قول وعمل بلا اعتقاد ، لا يجزئ قول واعتقاد بلا عمل .
هذا ما سار عليه السلف ، وتنوعت عباراتهم في شرحه وبيانه ، ولم يعلم لهم مخالف إلا من انحرف عن طريقهم وحاد عن سبيلهم .
ومن علم التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، وفقه معنى لا إله إلا الله وحقوقها ، وآمن بالتلازم بين الظاهر والباطن كما دلت عليه النصوص ، وسلّم لأهل السنة إجماعهم على أن الإيمان قول وعمل ، لم يسعه إلا أن يحكم بكفر من ذكرنا في المسألة المفروضة ، أعني من يعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يؤدي لله فرضاً ولا نفلاً ، مع التمكن من ذلك والقدرة عليه ، والقول بأن مثل هذا يمكن أن يكون في قلبه إيمان صحيح ، قول باطل مبني على نفي التلازم بين الظاهر والباطن ، بل لا يكون في قلبه حينئذ إلا زندقة ونفاق .

المبحث الثاني : أدلة أهل السنة :
لكن ينازع في ركنية العمل الظاهر ، وفي كفر تاركه بالكلية .
المطلب الأول : التلازم بين الظاهر والباطن
فمن حكم بإسلام تارك العمل الظاهر بالكلية كان بين أمرين : أن يدّعي أن ترك عمل القلب ليس كفراً ، كما تقوله الجهمية ومن وافقها . أو أن ينفي التلازم بين الظاهر والباطن ، ويتصور وجود عمل القلب المجزئ مع انتفاء جميع أعمال الجوارح ، كما تقوله المرجئة .
المطلب الثاني : إجماع أهل السنة على أن العمل جزء لا يصح الإيمان إلا به
وقد حكى هذا الإجماع ونقله غير واحد من أهل السنة ، بألفاظ متقاربة ، يدل مجموعها على أن الإيمان لا يجزئ من دون عمل الجوارح ,
قال الإمام الشافعي رحمه الله ، ت:204هـ ، حيث قال : ( وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون : الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر ) [81] .
المطلب الثالث : إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة
فإذا ثبت إجماعهم على كفر تارك الصلاة وحدها ، كان كفر تارك العمل الظاهر كله أحق وأولى بالإجماع .
الهوامش :-
[1] مجموع الفتاوى (7/291) .
[2]
السابق (7/638) .
[3]
مجموع الفتاوى (7/209) ، أصول اعتقاد أهل السنة لللاكائي (5/956) رقم 1593 .
[4]
التحقيق أن أكثر النصوص التي يستدل بها على أن قول القلب من الإيمان ، يستدل بها أيضاً على أن عمل القلب من الإيمان ؛ إذ كلاهما داخل في (إيمان القلب) ، بل التصديق الخالي من أعمال القلب لا يسمى إيماناً باتفاق المسلمين .
[5]
المائدة : آية ٤١ .
[6]
جزء من حديث جبريل المشهور ، رواه مسلم (8) واللفظ له من حديث عمر ، ورواه البخاري (50) من حديث أبي هريرة .
[7]
مجموع الفتاوى (7/534) .
[8]
الإيمان لابن منده (2/362) .
[9]
آل عمران : آية ٨٤
[10]
رواه البخاري (2946) ، ومسلم (21)من حديث أبي هريرة t .
[11]
مجموع الفتاوى (7/609) .
[12]
شرح الواسطية (2/637) .
[13]
الأنفال: ٢ – ٤ .
[14]
رواه البخاري (9) ، ومسلم (35) واللفظ له ، من حديث أبي هريرة t.
[15]
انظر : مجموع الفتاوى (7/550) .
[16]
مجموع الفتاوى (7/554-556) .
[17]
البينة : آية ٥ .
[18]
رواه البخاري (7556) ، ومسلم (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
[19]
مجموع الفتاوى (7/541) .
[20]
الصارم المسلول (3/966) .
[21]
آل عمران : آية ١٧٣ .
[22]
لعل مراده رحمه الله اشتقاق مادة الزيادة ، كقوله : ( فزادتهم إيماناً ) وقوله : ( زادتهم إيماناً ) ، وإلا فقوله تعالى : ( فزادهم إيماناً ) ليس منه في القرآن إلا هذا الموضع من سورة آل عمران . وكذلك قوله : ( وزدناهم هدى ) لم يرد في غير آية الكهف (13) .
[23]
الشريعة للآجري (2/605) رقم (240) ، الإبانة لابن بطة (2/850) رقم (1142) .
[24]
رواه البخاري (304) ، ومسلم (80) من حديث أبي سعيد الخدري t، ورواه مسلم أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
[25]
رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص(272) .
[26]
مجموع الفتاوى (18/278) وما بعدها .
[27]
مجموع الفتاوى (7/446) ، وانظر : (7/417) .
[28]
السابق (7/496) ، قال شيخ الإسلام : ( وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان ) .
[29]
السابق (7/446) ، الإبانة لابن بطة (2/865) .
[30]
السابق (7/452،450) ، وينظر : (3/289) ، (13/42) .
[31]
انظر الفتاوى (7/448) .
[32]
مجموع الفتاوى (7/414) ، وانظر : (7/259) .
[33]
مجموع الفتاوى (7/359) .
[34]
الحجرات : آية ١٤ .
[35]
مجموع الفتاوى (7/305) .
[36]
تفسير ابن كثير (4/220) .
[37]
الأحزاب : آية ٣٥ .
[38]
رواه مسلم (9) من حديث عمر @@@ .
[39]
مجموع الفتاوى (7/14) .
[40]
رواه البخاري (2475) ، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة @@@ .
[41]
رواه الخلال في السنة (4/10) ، وهو عند شيخ الإسلام (7/373) .
[42]
أي اقتران الإسلام بالإيمان في النص الواحد .
[43]
رواه البخاري (4368) ، ومسلم (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
[44]
رواه البخاري (9) ، ومسلم (35) واللفظ له ، من حديث أبي هريرة @@@ .
[45]
معالم السنن (4/295) ونقله شيخ الإسلام (7/358) وجاء فيه : ( وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال ، ولا يكون مؤمناً في بعضها . والمؤمن مسلم في جميع الأحوال ، فكل مؤمن مسلم ، وليس كل مسلم مؤمناً ، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف شيء منها ) .
[46]
جامع العلوم والحكم (1/105) وما بعدها .
[47]
جامع العلوم والحكم (1/107) وما بعدها .
[48]
مجموع الفتاوى (7/553) .
[49]
مجموع الفتاوى ( 7/367) .
[50]
مجموع الفتاوى ( 7/367) .
[51]
التوبة: ٦٥ – ٦٦ .
[52]
الصارم المسلول (3/976) .
[53]
انظر الواسطية وشرحها لابن عثيمين (2/644) ، وشرح الطحاوية ص(369،321) .
[54]
الحجرات : آية ١١ .
[55]
السجدة : آية ١٨ .
[56]
شرح الواسطية للشيخ ابن عثيمين (2/651) .
[57]
مجموع الفتاوى (7/435) وما بعدها .
[58]
آل عمران : آية ٣١ .
[59]
الزمر : آية ٧ .
[60]
النساء : آية ١٣٧ .
[61]
الزخرف : آية ٥٥ .
[62]
محمد : آية ٢٨ .
[63]
وهو أحد أوجه الاستثناء عند أهل السنة .
[64]
مجموع الفتاوى (7/194) .
[65]
مجموع الفتاوى (13/38) وما بعدها .
[66]
انظر هذين الموضعين في مجموع الفتاوى (13/38) وما بعدها .
[67]
التعليق على الطحاوية ، ضمن مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (1/265) .
[68]
حقيقة الإيمان وبدع الإرجاء في القديم والحديث ، د سعد بن ناصر الشثري ،ص(23) .
[69]
الحديث رواه البخاري (52) ، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير بلفظ : (( .... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) .
[70]
المجادلة : آية ٢٢ .
[71]
مجموع الفتاوى (7/50) .
[72]
السابق (7/363) .
[73]
مجموع الفتاوى (7/204) .
[74]
مجموع الفتاوى (7/553) .
[75]
المائدة : آية ٨١ .
[76]
آل عمران : آية ١٥٢ .
[77]
مجموع الفتاوى (7/645) .
[78]
السجدة : آية ٢٢ .
[79]
نواقض الإسلام ، ضمن مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب (6/259) .
[80]
قد لا يصرح المخالف بأن العمل الظاهر ركن زائد أو ثمرة أو شرط كمال ، والمهم أنه لا يجعله كبقية الأجزاء والأركان ، ويرى أن تركه بالكلية لا ينقض الإيمان .
[81]
شروح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (5\956) . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق